في زمنٍ صار فيه الصوت الأعلى هو الأكثر متابعة، صار من الطبيعي أن نرى الناس يحفظون أسماء المؤثرين أكثر مما يحفظون أسماء أجدادهم. ليس لأن المؤثر أضاف شيئًا جوهريًا إلى حياتهم، بل لأنه موجود على شاشتهم كل يوم، يبتسم لهم من خلف الكاميرا، ويلمح لهم – بطريقة أو بأخرى – بأن حياته تستحق أن تُعاش أكثر من حياتهم.
الظاهرة هنا ليست في وجود المؤثر نفسه، بل في تقديسه. نحن لا نتحدث عن الإعجاب الطبيعي بعمل فني أو إنجاز علمي، بل عن عبادة ضمنية لشخص لمجرد أنه يُطلُّ علينا يوميًا بحكاياته، صوره، ولقطات فطوره. فجأة يصبح كلامه حكمًا، وخياراته أسلوب حياة، وخطأه مجرد "سوء فهم" من الجمهور الذي عليه أن يعتذر له لأنه لم يفهمه كما يجب.
من الناحية النفسية، تقديس المؤثر يشبه إلى حد كبير تلك الحاجة القديمة للبحث عن "قدوة عليا" تمنح الإنسان شعورًا بالانتماء والمعنى. المشكلة أن هذه القدوة اليوم ليست سقراط ولا نيوتن ولا حتى فنانًا جادًا، بل شخص يعرف كيف يلتقط زاوية إضاءة جيدة، أو كيف يثير الجدل بعبارة غامضة. نحن نتعامل مع نسخة رقمية من "القائد الروحي"، لكن بدل النصوص الفلسفية، يمنحك كود خصم على معجون الأسنان.
أما اجتماعيًا، فالأمر أخطر. هذا التقديس يعيد تشكيل موازين القيم في المجتمع. لم يعد النجاح مرتبطًا بالعلم أو العمل الجاد، بل بعدد المتابعين. أصبحت معايير "الصواب" و"الخطأ" مرهونة بموقف المؤثر المفضل، حتى لو كان الموقف سخيفًا أو متناقضًا. ومن الطريف – أو المأساوي – أن كثيرين يغيّرون آراءهم بين ليلة وضحاها فقط لأن المؤثر الذي يتابعونه غيّر رأيه.
السخرية أن معظم المؤثرين أنفسهم لا يطلبون هذا التقديس علنًا، لكنهم يستثمرون فيه ضمنيًا. فكلما زاد عدد العيون الموجهة نحوهم، زادت قيمتهم في سوق الإعلانات. والشركات تعرف ذلك جيدًا، فتضخ الأموال في جيوب من يملكون القدرة على جعل آلاف الأشخاص يشترون نفس الحذاء في نفس الأسبوع، لمجرد أن "القدوة الرقمية" ارتدته على الملأ.
هناك أيضًا عامل الإيهام بالحميمية. المؤثر يشاركك تفاصيل حياته اليومية، يضحك أمامك، يتحدث عن مشاعره، وربما يبكي. فتشعر أنك تعرفه حقًا، وأن بينكما رابطًا شخصيًا. لكن هذا الرابط في الحقيقة أحادي الاتجاه: أنت تعرفه، لكنه لا يعرفك، ولن يعرفك. كل شيء في هذه العلاقة مدروس ليجعلك تشعر بالقرب العاطفي، بينما الواقع أن قربك هو مجرد رقم في قائمة "المتابعين".
ومثل أي علاقة مبنية على الوهم، تأتي لحظة الانكسار. لحظة يكتشف فيها المعجب أن المؤثر ليس نقيًا كما تخيل، أو أنه ببساطة بشر يخطئ ويكذب ويستغل الفرص. لكن بدل أن يتعامل الجمهور مع هذا الاكتشاف كشيء طبيعي، ينهار بعضهم أو ينقلبون فجأة إلى أعداء شرسين. هنا نرى الجانب المَرَضي في التقديس: الحاجة إلى أن يكون المؤثر مثاليًا، وإلا فوجوده يصبح خيانة شخصية لك.
في النهاية، ربما المشكلة ليست في المؤثرين أنفسهم، بل في هذا الفراغ النفسي والاجتماعي الذي يجعل الناس يبحثون عن "أيقونة" يعلقون عليها آمالهم، يختبئون خلفها من قسوة الواقع، ويتوهمون أن مجرد متابعتها يمنحهم قيمة مضافة لحياتهم. نحن نصنع الآلهة الرقمية بأيدينا، ثم نغضب لأنها لا ترقى إلى صورة الكمال التي رسمناها لها.
ربما آن الأوان أن نتذكر أن المؤثر ليس أكثر من شخص لديه مهارة في جذب الانتباه، وهذه المهارة، مهما كانت لامعة على الشاشة، لا تمنحه سلطة أخلاقية أو فكرية علينا. في النهاية، من يقدس مؤثرًا لمجرد أنه مؤثر، يشبه من يعبد المرآة لأنه أعجب بانعكاس صورته عليها.
دمتم بخير والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
سامي شو -
أصبت القول، عندما كتبت ملاحظة علي الصفحة لدي عن كيفية رفضي لفكرة "الفانز" بشكل عام جاء الكثير ينتقدوني ويبررون أنهم ليسوا بهذا الهوس وأن ليس هناك علة من أخذ مؤثر لك قدوة، في حين أنهم أثبتوا صحة كلامي من طريقة انتقادهم لي هم يمحون هويتهم من أجل شخص حتي لي يعلم وجودهم ومستعدين أن يقللوا من شأن أي شخص يمس هذه الشخصية بأي انتقاد حتي، المشكلة أن قدوتهم شخصية لا متعلمة ولي لديها من الدين شئ ولي لديها مبادئ، وبالرغم من هذا ما زالوا يقدسونهم ويرون أن أي فعل لهم هو مبرر أو سوء فهم
شكرا موضوع مفيد ويستحق الإنتشار