أحيانًا يبدو الحزن كغيمةٍ لا تهطل، تتراكم فوق الرأس ولا تسقط مطرًا. إنه لا يصرخ، لا ينهار، بل يجلس في زوايا الروح بهدوء، كضيفٍ لا يريد المغادرة. تعلم أن وجوده مؤقت، لكنك تدرك في الوقت ذاته أنه قد يطول أكثر مما تحتمل.
الحزن ليس مجرد فقدان شخص أو فرصة، بل هو تلك المسافة التي تنشأ فجأة بينك وبين العالم. تستيقظ في الصباح، فتجد أن الألوان باهتة، وأن الأصوات تأتيك كأنها من وراء جدار سميك، وأن كل شيء من حولك يستمر في الدوران، بينما أنت متوقف في مكانك. هناك لحظات يصبح فيها الحزن أشبه بجاذبية خفية: لا يراك أحد وأنت تسقط، لكنك تسقط بالفعل، ببطءٍ لا يُلاحظ.
أفكر أحيانًا أن الحزن هو الوجه الآخر للوعي. فكلما ازداد وعي الإنسان بالحياة، صار أكثر عرضة للحزن. من يفكر كثيرًا لا يمكن أن ينجو من ثقل الأسئلة: لماذا نفترق؟ لماذا لا يعود الغائب؟ لماذا يبدو العالم مليئًا بكل هذا العبث؟ الفيلسوف لا يبكي بسهولة، لكنه يحمل داخله بكاءً أبديًا لا يجد له مخرجًا.
نحن نتصور أن مرور الوقت يخفف الألم، لكنه في الحقيقة لا يزيله، بل يُحوّله إلى شكلٍ آخر. تصبح أكثر اعتيادًا على الخسارة، لكن الاعتياد ليس شفاءً، إنه فقط تدريب على التعايش. الجرح يبقى جرحًا، حتى وإن توقفت عن النزيف. ولهذا يظل الحزن كظلٍ طويل يرافقك، يتبدل طوله مع حركة الشمس، لكنه لا يختفي.
أحيانًا أحسد الأشياء الجامدة؛ الكرسي الذي يظل كرسيًا مهما تغيّر من يجلس عليه، الجدار الذي يحتفظ بصمته حتى لو التصقت به آلاف الوجوه. الأشياء لا تحزن لأنها لا تدرك، أما نحن فنحزن لأننا ندرك أكثر مما يجب. الوعي هو هديتنا الكبرى، لكنه أيضًا لعنتنا الأبدية.
وفي أعماقي يراودني سؤال لم أجد له جوابًا: هل نحن نحزن لأننا نخسر، أم لأننا نعرف أننا سنخسر منذ البداية؟ لعل الحزن هو المعرفة ذاتها، معرفة أن كل ما نحب مؤقت، وكل ما نتمسك به سيذوب مع الزمن. وما يجعلنا نستمر ليس الأمل بقدر ما هو العجز عن التوقف.
هكذا يبدو الحزن: لا عاصفة ولا انهيار، بل نهرٌ خفي يجري تحت سطح الحياة. لا يسمعه الآخرون، لكنك تعيش معه يومًا بعد يوم، حتى يصبح جزءًا من تعريفك لذاتك. وربما، في النهاية، لا نكون نحن سوى ذلك الحزن الذي تعلمنا أن نحمله بوجوه صامتة، كمن يحمل سرًا لا يعرف كيف يبوح به.
وفي النهاية، ما الذي يبقى حين يخفت كل شيء؟ لا أمل، لا معنى، لا عزاء. الزمن لا يضمّد الجراح، بل يحوّلها إلى ندوب تذكّرك بأنك لم تشفَ قط. وكلما حاولت أن أجد في الغد مخرجًا، اكتشفت أن الغد ليس سوى نسخة باهتة من اليوم، واليوم ليس إلا تكرارًا بائسًا لما مضى. إن الحياة لا تسير بنا إلى الأمام، بل تدور بنا في حلقة من الخسارات الصغيرة والكبيرة، حتى نتآكل بصمت كأوراق مهملة في الريح.
أحيانًا أظن أنني أعيش فقط لأشهد انهياري يتكرر بأشكال مختلفة، لأتعلّم أن لا شيء يستحق التمسك به، لأن كل ما نحب محكوم بالزوال، وكل من ننتظر عودته لن يعود. وكل محاولة للتماسك ليست سوى وهم مؤقت، ينهار عند أول نظرة إلى الفراغ المحيط بنا.
وهكذا أصل إلى حقيقة لا أستطيع الفرار منها: أنني لم أعد أملك تفسيرًا لوجودي سوى هذا الثقل الذي يرافقني، هذا الحزن الذي ينخرني حتى في صمتي. وربما لست في النهاية سوى إنسان مفرط في إنسانيته، إنسان يعي أكثر مما ينبغي، ويحسّ أكثر مما يُحتمل، ويستنزفه ذلك الوعي حتى آخر نفس.
أصلح علاقتك مع الله واجعلها أوثق، حينها ستدرك أن الوعي نعمة لا تُقدّر بثمن، لا لعنة أبدية